تفسير سورة آل عمران
تفسير سورة آل عمران
عدد آياتها 200
(
آية
1-25 )
وهي مدنية
وهي مدنية
نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى
الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما
تقدم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{
1 - 6
}
{
الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ
الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
}
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي
لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله
الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، فالحي من له
الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي لا تتم ولا تكمل الحياة
إلا بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء والدوام والعز الذي لا
يرام {
القيوم
}
الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع
مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم،
تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
الكتاب، الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره
ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق
بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه {
مصدقا لما بين يديه
}
من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو
المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة
له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم
به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى {
وأنزل التوراة
}
أي: على موسى {
والإنجيل
}
على عيسى.
{
من قبل
}
إنزال القرآن {
هدى للناس
}
الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى
للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله
{
وأنزل الفرقان
}
أي: الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد والمطالب،
وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى بقيت الأحكام جلية ظاهرة، فلم يبق لأحد
عذر ولا حجة لمن لم يؤمن به وبآياته، فلهذا قال {
إن الذين كفروا بآيات الله
}
أي: بعد ما بينها ووضحها وأزاح العلل {
لهم عذاب شديد
}
لا يقدر قدره ولا يدرك وصفه {
والله عزيز
}
أي: قوي لا يعجزه شيء {
ذو انتقام
}
ممن عصاه.
{
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
}
وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها، ومن
جملة ذلك الأجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم،
وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير، فلهذا قال {
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء
}
{
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء
}
من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى {
لا إله إلا هو العزيز الحكيم
}
تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك
رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وتضمنت إثبات
حياته الكاملة وقيوميته التامة، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم،
وإثبات الشرائع الكبار، وأنها رحمة وهداية للناس، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره،
وعقوبة من لم يهتد بها، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.
{
7 - 9
}
{
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا
رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
}
القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى {
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
}
فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان {
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
}
وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما
الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله {
منه آيات محكمات
}
أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال {
هن أم الكتاب
}
أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، {
و
}
منه آيات {
أخر متشابهات
}
أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض
الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر
التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد
المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل
فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين {
فأما الذين في قلوبهم زيغ
}
أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت
قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد {
فيتبعون ما تشابه منه
}
أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم
على المتشابه {
ابتغاء الفتنة
}
لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه،
وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله {
وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
}
للمفسرين في الوقوف على {
الله
}
من قوله {
وما يعلم تأويله إلا الله
}
قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها {
والراسخون في العلم
}
وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب
الوقوف على {
إلا الله
}
لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله
وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا
الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل
الإمام مالك رحمه الله عن قوله {
الرحمن على العرش [استوى ]
} فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان
به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن
يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها
واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا
الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا
يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما
الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن
أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف {
الراسخون
}
على {
الله
}
فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة
لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها
للمحكم ويقولون {
كل
}
من المحكم والمتشابه {
من عند ربنا
}
وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد
بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند
الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم
يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع
المتشابه قال {
وما يذكر
}
أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا {
أولوا الألباب
}
أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم،
فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور
الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول
النافعة.
ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون {
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
}
أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين،
فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين {
وهب لنا من لدنك رحمة
}
أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات {
إنك أنت الوهاب
}
أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.
{
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد
}
فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم
بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى
الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على
مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد
علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا،
الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله {
يقولون آمنا به كل من عند ربنا
}
الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون،
الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله {
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
}
السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا
إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم
منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل، ثم قال تعالى:
{ 10 - 13 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ *
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ
رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب
وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن
كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون
{ نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين }
فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
{ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن }
وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله
الصالحة، كما قال تعالى
{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا
فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون }
وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه
الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته
الجارية في الأمم السابقة.
كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب الأموال
والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا، أخذهم الله
بذنوبهم عدلا منه لا ظلما والله شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو
الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها
ثم قال تعالى
{ قل }
يا محمد
{ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }
وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى،
فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا
تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة، ففي هذا عبرة وآية من آيات
القرآن المشاهدة بالحس والعيان، وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في
الدار أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار، وهذا هو الذي مهدوه
لأنفسهم فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
{ قد كان لكم آية }
أي: عبرة عظيمة
{ في فئتين التقتا }
وهذا يوم بدر
{ فئة تقاتل في سبيل الله }
وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
{ وأخرى كافرة }
أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل
الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا
قال
{ يرونهم مثليهم رأي العين }
أي: يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة، تبلغ المضاعفة وتزيد
عليها، وأكد هذا بقوله
{ رأي العين }
فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم، وقتلوا صناديدهم، وأسروا كثيرا منهم،
وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره، وخاذل من كفر به، ففي هذا عبرة لأولي
الأبصار، أي: أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة، على أن الطائفة المنصورة
معها الحق، والأخرى مبطلة، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة
والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع
المحالات، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل
البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته، وهو نصره وإعزازه
لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
{ 14 - 17 } { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ
أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }
يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها
أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها، قال تعالى
{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها }
فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم
ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود،
فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا
لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا
يبالون على أي: وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادا لهم
إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله
جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته،
فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه
الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها
كما قال الله فيها
{ ذلك متاع الحياة الدنيا }
فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت
لهم زادا إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه
الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول
النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين
الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل
الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار
الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع
الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس
هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك
المفاضلة بينهما
{ والله بصير بالعباد }
أي: عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة، وما هو اللائق
بأحوالهم، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء. فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها
بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى
عنه، وكان من دعائهم أن قالوا:
(16 - 17)
{ ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار }
توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر آثارها
وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.
فقال
{ الصابرين }
أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة،
{ والصادقين }
في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم
{ والمنفقين }
مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم
{ والمستغفرين بالأسحار }
لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم، حالا ولا
مقاما، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم، ويتوقعون أوقات الإجابة
وهي السحر، قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. فتضمنت
هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي، ثم وصف الجنة وما فيها من
النعيم وفاضل بينهما، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها
والعمل لها، ووصف أهل الجنة وهم المتقون، ثم فصل خصال التقوى، فبهذه الخصال يزن
العبد نفسه، هل هو من أهل الجنة أم لا؟
{ 18 - 20 } { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى
وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه من
الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في
الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد
بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه العظيم الذي
ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن
المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان
الشرك، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله،
وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم
الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على
ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا
الأمر المشهود عليه والعمل به، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد
لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم
ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى
هذه الحالة فليس من أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه
كثيرة، منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن
الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا، ومنها: أنه جعلهم
أولي العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه
تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به،
فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم
وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه، ولما قرر توحيده قرر عدله، فقال:
{ قائمًا بالقسط }
أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في
ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدره، ثم أعاد تقرير توحيده فقال
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم }
واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة
النقلية والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة
النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض
من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك، حتى
كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر
العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها:
الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور
أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من
أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة
العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من
عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة
ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه -
فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل
الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا
أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا
على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا
ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على
فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما
أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر،
وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق
المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله،
والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات
الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده
العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة
والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير
دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية
والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن
عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة:
{ إن في ذلك لآية }
أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو
الموجب للهلاك، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل
العظيم، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حي عن بينة، ويهلك
من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء.
ولما قرر أنه الإله الحق المعبود، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به
ويدان له، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها
رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو متضمن للإخلاص
له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك، وهذا هو دين
الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما
جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله، بغيا بينهم، وظلما وعدوانا من
أنفسهم، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف،
وهذا من كفرهم، فلهذا قال تعالى
{ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن
يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب }
فيجازي كل عامل بعمله، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته، فهذا مستحق للوعيد
الشديد والعقاب الأليم، ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند محاجة
النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين الإسلام
عليه أن يقول لهم: قد
{ أسلمت وجهي لله ومن اتبعن }
أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين
الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم، وتجديد لدينكم عند ورود
الشبهات، وحجة على من اشتبه عليه الأمر، لأنه قد تقدم أن الله استشهد على
توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم، وسيد أهل العلم وأفضلهم
وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أتباعه على اختلاف
مراتبهم وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من
الخلق ما يساويهم أو يقاربهم، فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة،
وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح، وعرف أن
ما سواه من الأديان باطلة، فلهذا قال
{ وقل للذين أوتوا الكتاب }
من النصارى واليهود
{ والأميين }
مشركي العرب وغيرهم
{ أأسلمتم فإن أسلموا }
أي: بمثل ما أمنتم به
{ فقد اهتدوا }
كما اهتديتم وصاروا إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم
{ وإن تولوا }
عن الإسلام ورضوا بالأديان التي تخالفه
{ فإنما عليك البلاغ }
فقد وجب أجرك على ربك، وقامت عليهم الحجة، ولم يبق بعد هذا إلا مجازاتهم
بالعقاب على جرمهم، فلهذا قال
{ والله بصير بالعباد }
{ 21 - 22 } { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما وأي: جرم أعظم من
الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية
الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق
الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء
قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له،
فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب
المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان
والقلوب والأرواح.
وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله ولا يدفع عنهم
من نقمته مثقال ذرة، بل قد أيسوا من كل خير، وحصل لهم كل شر وضير، وهذه الحالة
صفة اليهود ونحوهم، قبحهم الله ما أجرأهم على الله وعلى أنبيائه وعباده
الصالحين.
{ 23 - 25 } { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ
مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ
فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن
يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا
إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم،
وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم
والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع
وينقاد، كما قال تعالى
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا
وأطعنا }
والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو قولهم
{ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون }
افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن المحارم، لأن
أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة، وكذبوا في ذلك، فإن هذا مجرد كذب
وافتراء، وإنما مآلهم شر مآل، وعاقبتهم عاقبة وخيمة، فلهذا قال تعالى
{ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه }
أي: كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه، حالة لا يمكن وصفها ولا يتصور قبحها
لأن ذلك اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل لا بالظلم، وقد علم
أن ذلك على قدر الأعمال، وقد تقدم من أعمالهم ما يبين أنهم من أشد الناس عذابا.
أترك تعليقًا